تعتبر موريتانيا بلدا متعدد الثقافات، فالمجتمع الموريتاني هو نتاج التعاقب والتلاقح بين السود و البافور و البربر والعرب1. ويلاحظ الدارس أن المجتمع الآدراري ليس إلا مجرد نتاج للتفاعل المستمر عبر الزمن بين مختلف تلك الأجناس، التي استوطنت آدرار خلال فترات زمنية متلاحقة.
نشير هنا إلى أن ترتيبنا لتلك الأجناس الآنفة الذكر قد لا يكون بالضرورة حسب أقدمية تواجدها في الحيز الجغرافي المعروف بموريتانيا حاليا ولا في آدرار الذي هو موضوع دراستنا، أو إثباتا لتواجدها في ذلك الحيز بالأساس، فبعضها على الأقل لا يوجد عنه إلا ما ندر من الذكر- وعلى قلة المصادر التي تناولته فإنها تثير من التساؤل و الجدل أكثر من ما تقدمه لنا كحقائق علمية- والحال هنا ينطبق على البافور!2 كما أن العصور الحجرية لم تجر حولها بحوث أثرية جادة ذ بإستثناء كومبي صالح وتكداوست ودراسة لم تكتمل في آزوكي- تلك البحوث التي يعول عليها كثيرا في فك طلاسيم الديموغرافيا الموريتانية بشكل عام وفهم أصول وجذور الثقافات الشعبية المحلية، أما الفترة الوسيطة فقد وردت فيها بعض الإشارات من طرف الرحالة العرب حول السكان في الحيز الجغرافي المعروف بموريتانيا حاليا.
ننوه إلى بعض الملاحظات التي قدمها باحثون غربيون (برتغاليون) حول المجتمع خاصة في آدرار وذلك أثناء فترة تبادلاتهم التجارية مع المنطقة.
عرفت آدرار تعاقب مجموعات بشرية خلال فترات زمنية غابرة، حيث شهدت المنطقة تواجد بشري منذ ما قبل التاريخ (حوالي مليون سنة)، وتشير النقوش الصخرية المنتشرة في مواقع أثرية متعددة ( البيظ، الغلاوية...) إلى وجود بشري في تلك الربوع منذ آلاف السنين، هذا من جهة ومن جهة أخرى تبرز الحفريات والأعمال الأثرية المنجزة - رغم قلتها- تواجدا بشريا في مناطق مختلفة من آدرار في فترات متقدمة من الزمن، فمثلا تم اكتشاف قبور ترجع إلى آلاف السنين لأشخاص دفنوا في وضعية الجلوس في منطقة الغلاوية في ولاية آدرار، وتشير الدراسات إلى أن تلك القبور تعود لفترة السابقة على دخول الإسلام للمنطقة، وهو ما يؤكد فرضية وجود ثقافات آدرارية موغلة في القدم.
رغم قلة الكتابات التي تناولت الثقافات المحلية وتاريخها في آدرار إلا أنها تعطينا بعض الإشارات الهامةعلى وجود مجموعة من الثقافات التي تلاحقت وأنتجت لنا المجتمع الآدراري في صورته الحالية.
عرفت آدرار عدة ثقافات بدءا بثقافات العصور الحجرية مرورا بالبافور والبربر فصنهاجة3، ثم الهجرات العربية و ما جلبته من نمط ثقافي لا تزال شواهده جلية في المجتمع الآدراري حتى يوم الناس هذا!4.
ويمكن إجمال أهم مميزات و خصائص تلك الثقافات من خلال:
ثقافات العصور الحجرية
تظهر الرسوم و النقوش الصخرية المنتشرة في مواقع كثيرة في ولاية آدرار آثار ثقافات متنوعة شهدتها المنطقة في العصور الحجرية المختلفة، فمن خلال تلك الرسوم و النقوش في مواقع مثل البيظ و الغلاوية. يمكن أن نستنتج أنماط الثقافات السائدة آنذاك.
إن الدارس لثقافات العصور الحجرية في موريتانيا يجد الكثير من الصعوبات حيث لم تنجز دراسات معمقة حولها إلا أن هنالك بعض الدراسات لمواقع في آدرار أما مناطق البلد الأخرى فلم تحظ إلا بالنزر القليل من البحث افالدراسة لم تشمل بعد إلا بعض المواقع وبصفة سطحية منها مواقع في شمال آدرار، وإن كانت الأخيرة حظيت باهتمام أكبر أما الآثار في باقي البلد فلا يوجد عنها في الغالب إلا بعض الإشارات ولم تحظ مناطق كثيرة في الشمال والشرق بأكثر من مرور الكرامب5.
إلا أن هنالك مساهمات لمؤلفين مثل: روبير فيرني، تيودور مونو، ريمون موني، ب.بيبرسي، ج.ف.باستي وبوبه ولد محمد نافع ومحمد ولد ختار حول الحجري القديم غير أن هذه الأبحاث تبقى نتائجها محدودة وذلك لسببين6:
كون جل القطع الأثرية وجدت صدفة والنشر حولها نادر
فقدان الطبقة القابلة لتوظيف وهو ما يحول دون إمكانية التأريخ
ضف إلى ذلك أن معظم هذه الدراسات تقتصر على تصنيف الأدوات وقد توصل بعض الباحثين إلى أن الإنسان القديم كان يسكن في أغلب الأحيان بجوار المناطق المائية (البحيرات والأنهار) وليس ببعيد من مصادر صناعته الحجرية (مقالع الكوارتزيت الصلبة الكامبرو - أردوفيسية CAMBRO-ORDOVICIENNE) التي أنجزت منها أدواته.
مواقع تحتوي اليوم الكثير من المنقولات الأثرية التي صنعت في فترات مختلفة، فـالإنسان قد استوطن تلك الصحراء منذ فترات متقدمة، وتشير الآثار التي وجدت إلى ثقافات متعددة كالآشولية 7 والمستيرية والعطرية8.
وقد استعمل الإنسان القديم الحجارة في صناعة جل أدواته فآثار الحجري القديم منتشرة في كل مناطق البلد من الأزرق قرب أزويرات حتى هضاب آفلة وإن كانت تتركز أساسا في منطقة اأتراب الحجرةب وفي مناطق منها أساسا كمنطقة الباطن في آدرار9.
فالإنسان القديم قد استخدم الحجارة من أجل صناعة معظم أدواته، فصنع منها أدوات الطحن االرحيب و االصفيةب وأدوات القطع كالفأس الحجري اأكويديم الذيبب10 وأدوات القنص اكبوشريكب. كما استخدم الخزف في فترات لاحقة حوالي 5000 ق.م.11، وهو ما سمح له بتخزين الماء والحبوب وطبخ الأطعمة، وبذلك حد من تأثير الطبيعة عليه.
إن هذه الأدوات وغيرها منتشرة في مواقع مختلفة في جميع مناطق الوطن ففي آدرار موقع البيًظ - الذي وصفه تيودور مونو بأنه يحتوي على ما يحمل أربع عربات قطار من الآثار-12 والغلاوية، وليست هذه المواقع إلا نماذج بسيطة على ما تحتويه الصحراء من كنوز أثرية تحتاج الكثير من البحث والسبر والحفر والتنقيب.
1 - ثقافة العصر الحجري القديم
(LE PALÉOLITHIQUE):
يعد العصر الحجري القديم من أقدم العصور البشرية إن لم يكن أقدمها على الإطلاق فكما تشير الدراسات قد بدأ قبل 1.000.000 سنة من الآن13، وقد عرف عدة ثقافات مثل الآشولية والمستيرية والعطرية و ثقافات أواخر الحجري القديم، فآثار هذه الحقبة منتشرة في العديد من مناطق موريتانيا و من أهمها منطقة الباطن في آدرار، حيث توجد مقالع الحجارة (كوارتز، كوارتزيت، سيلكس) التي كان الإنسان القديم يسكن بالقرب منها نظرا لعدم قدرته علي الانتقال بعيدا، كما أنه كان يسكن في جوار المناطق الرطبة (بحيرات، أنهار) ويرجح بعض الدارسين على أنه استعمل أدوات خشبية إلا أنه لا توجد آثار تساند ذلك الادعاء، ولعل أهم ما ميز الفترة الآشولية14:
الفؤوس ذات الوجهين(BUFACE).
الفؤوس الكبيرة البدائية (LES GRAND HACHEREAUX).
ثم تلت تلك الفترة ما يعرف بالفترة العطرية التي تمتد من حوالي (90.000 حتى 20.000 ق.م) وقد كان الإنسان فيها يحترف الصيد والجني في آدرار، وكانت أدواته الحجرية أشد صقلا من سابقتها لينتهي العصر الحجري القديم بجفاف طويل من حوالي(20.000 حتى 10.000 سنة قبل الآن).
1 - آثار الحقبة الآشولية وثقافتها:
تعد الحقبة الآشولية من أقدم حقب العصر الحجري والأدوات المصنوعة خلال هذه الحقبة منتشرة في الكثير مناطق موريتانيا، فحيثما وجدت بيئة مناسبة لذلك(حجارة لكوارتزيت، كوارتز، سيلكس، والماء) توجد آثار الحقبة الآشولية وخاصة مناطق الشمال ومن ضمنها آدرار الذي يمتاز بوجود الصخور والجروف والهضاب والتلال (أظهر آدرار، تكل، أنترازي، أريشات) وفي الغالب لا توجد مناطق تدل على استقرار طويل للمجموعات البشرية إلا أنه هنالك مواقع ضخمة يمكن أن تكون عرفت استقرارا بشريا معتبرا كـمنطقة البيًظ التي كانت يوجد فيها آلاف القطع الأثرية15. اإن المواقع مع تباينها تظهر في الغالب آثار تجمعات سكنية محدودة نظرا إلى نمط حياة القناصة الرحل، ولكن توجد أيضا مواقع ضخمة من المحتمل أن تكون الإقامة قد طالت بها ومن هذه المواقع الأزرق جنوب أزويرات ومنطقة البيًظ و آدرار عموما، وحمدون جنوب أطارب16.
2 - آثار الحقبة العطرية وثقافتها:
تغطي آثار الفترة العطرية شمال البلاد من الأزرق مرورا بآدرار حتى الجزء الشمالي الشرقي من المجابات17.
وقد درس جل الباحثين القطع المكتشفة التي تعود إلى تلك الفترة دون دراسة المواقع الأثرية المنتشرة بصفة شاملة وهو ما حد من نتائج تلك الدراسات، ويعد خط العرض 20 18 شمالا الحد الجنوبي لآثار هذه الحقبة، ولعل ميزة الصناعة الحجرية في الفترة العطرية أنها تعبير إفريقي عن الفترة المستيرية كما أنها امتداد للفترة الآشولية وأدوات هذه الحقبة من صنع الأمو سابينس (HOMO SAPINES) ومن أدواتها19:
الأدوات ذات الساق (محكات، خراطات، مثاقب، حراب).
الفؤوس (صنف الفؤوس الصغيرة).
ويري البعض أن الفترة العطرية بدأت في حدود 90.000 سنة وانتهت في حدود 20.000 سنة قبل الآن.
2 - العصر الحجري الحديث
(LE NÉOLITHIQUE):
لقد مرت الصحراء بفترات تحول مناخي عديدة، حيث عرفت فترات رطبة تتبعها فترات جفاف وكان من أطول تلك الفترات فترة الجفاف التي صاحبت أواخر الحجري القديم من (20.000 حتى 12.000) غير أن الحياة بدأت تعود للصحراء في حدود 10.000 سنة قبل الآن وهو ما عرف بـالعصر الحجري الجديد الذي استطاع الإنسان فيه أن يكون أكثر تحررا من عوامل الطبيعة واستقر في مناطق كان يستحيل عليه الاستقرار بها اكـورانب في آدرار مثلا.
وقد بدأ الاستيطان أولا من المنطقة الوسطى الجبلية ليشمل باقي الصحراء في فترات لاحقة، وقد خلف الإنسان القديم الكثير من الآثار في المناطق التي استقر بها وخاصة تلك التي عرفت فترات استقرار طويل أو أعيد استغلالها من طرف مجموعات متلاحقة لتوفرها علي مقومات الاستقرار سواء كانت من مقالع الحجارة والماء أو المعادن التي تم استغلالها في فترات متأخرة كــموقع االبيًظب.
يعد العصر الحجري الجديد في آدرار عموما من أغنى العصور من حيث صناعة المنقولات الأثرية، وقد استطاع الإنسان خلال هذا العصر أن يكون أكثر حرية في تنقله حيث لم يعد مرتبطا بمقالع الحجارة على خلاف ما كان عليه الحال في العصر السابق20، كما كان قناصا ثم صياد أسماك ومحار ثم مارس الجني كما عرف تربية الحيوان21 (في حدود 5.000 ق م )، ثم اخترع الخزف ذلك الاختراع الذي مثل فتحا كبيرا للإنسان يقول روبير فرني اإن الخزف بلا شك هو الذي يمثل التغيير الأكثر جذرية، علاوة على طبخ الأطعمة فإنه يسمح بتخزين الماء والأطعمة وحاجيات أخري غيرهاب (وجد أثره مؤخرا حوالي 4.000 ق.م قرب أنواذيبو) ثم عرف الزراعة في تلك الفترة (3500 ق م)22.
ومن أبرز الأدوات التي تمت صناعتها خلال هذه الفترة23:
أدوات الطحن (الرحى، الصفية...)
بيض النعام المنقوش.
الحراب على شكل برج إيفل تقريبا.
الأدوات الحجرية الدقيقة.
الأواني الخزفية.
كما أن النقوش والرسوم الصخرية في منطقة آدرار تبين نماذج من الأدوات التي كان الإنسان يستخدمها من أجل صيد الحيوانات الكبيرة (الفيلة، وحيد القرن، الزرافة...).
ثقــافة البافــور
لاتوجد الكثير من الكتابات التي تناولت هذا الشعب وثقافته، فجل الدراسات لا تقدم لنا نتائج موثوقة بقدر ماتحيلنا إلى فرضيات عن أصول البافور وتاريخ استيطانهم آدرار، وهي على أهميتها تبقى مجرد فرضيات قابلة للنقاش والتصويب حتى يتم القيام بدراسات أثرية ربما تقدم لنا إجابات أكثر دقة على تلك الفرضيات حسب ما يرى الباحث الفرنسي الراحل بير بونت24.
لا يعرف الكثير عن البافور هل هم سود أم بيض؟! ومهما يكن فمن المؤكد أنهم ليسوا مسلمين فعلى الأرجح إما مسيحيين أو يهود بل يذهب البعض إلى القول بأنهم ربما يكونوا وثنيين25.
فمن خلال المراجع الأوروبية نجد البرتغالي دييغــو كوميــز ( DIGO GOMS ) الذي تحدث سنة 1482 عن اجبل آبفورب كما نجد الإسباني فالانتيم فيرنانديز (VALENTIM FENANDS) في وصفه للشاطئ الأطلسي بين سبتة والسينغال (1507-1506) يتحدث عن اجبل بافورب وفي كلتا الحالتين ينطبق الأمر على آدرار.
فثقافة البافور حسب إحدى الفرضيات و التي تدعمها بعض الشواهد المادية يوجد تناسق كبير بينها وبربر الشمال خاصة من حيث طبيعة السكن.
فالبافور يشيدون مساكنهم في الغالب من الحجارة وتكون مدافنهم مجاورة لأماكن مناسبة للزراعة (لكراير)26 وهو مايستنتج منه أنهم كانوا يزاولون الزراعة وتربية المواشي بإستثناء الإبل، هذا بالإضافة إلى غراسة النخيل في أماكن حصينة27.
من خلال الفرضية الأولى والتي تنبني على شواهد مادية، يمكن ملاحظة بعض مميزات اعمارة البافورب من خلال مساكن من الحجارة شيدت في مواقع حصينة منفتحة على مناطق صالحة لممارسة الزراعة والانتجاع، ربما يكون تركيزهم على التحصين في البناء من أجل حمايتهم في وجه خطر خارجي؟!
الفرضية الثانية تقول بأن البافور ليسوا مسلمين بل أهل كتاب ويرجح أنهم مسيحيون ترجع أصولهم إلى الإسبان أو البرتغاليين28، ومن المسوغات القوية لأصحاب هذا الطرح ارتباط البافور بالكلاب حيث كانت عندهم مدينة إسمها امدينة الكلابب - من المرجح أن تكون امدينة آزوكيب - تلك الكلاب التي كانت مدربة جيدا من أجل المساهمة في صد الأخطار الخارجية.
ويذهب البعض الآخر إلى أنهم قد يكون من فرقة الإباضية29 (طائفة من الخوارج) قدموا إلى شمال إفريقيا في فترات انتشار التيار الخارجي وخاصة في أواخره حيث من المرجح أن يكونوا قد تحصنوا في الصحراء وجبال آدرار فرارا بدينهم ومحاولة منهم لكسب أتباع جدد!؟
مهما يكن من أمر البافور وأوصولهم فإنهم من المؤكد أنهم أهل حضر، حيث تشير الثقافة المادية المتبقية حتى يوم الناس هذا إلى أنهم عرفوا التحضر فضخامة مقابرهم التي من أشهرها النصب التذكاري الكبير االمغليثيب القريب من اتنلبهب الذي ينسب إلى بافور نفسه، ونمط سكنهم الذي في الغالب يكون في جوار حقولهم الزراعية (لكراير)30.
الثقافة البربرية والثقافة الصنهاجية
مع التحولات المناخية الكبرى التي عرفتها الصحراء بدأ السكان بالانحصار نحو مناطق البحيرات و البرك المائية، وقد استطاع الوافدون الجدد( البربر) أن يتكيفوا أكثر مع تلك العوامل الجديدة، وذلك من خلال تطويع معادن ( النحاس، الحديد...)
ففي حدود 2800 إلى 2000 سنة قبل الآن أصبح البربر حاضرن بقوة في الصحراء، ويمكن الاستدلال على ذلك الحضور من خلال النقوش والرسوم الصخرية التي خلفتها تلك الحقبة31، و ما مثلته من نمط ثقافي جديد32.
سنتعرف على جوانب هامة من الثقافة البربرية من خلال الرسوم و النقوش الصخرية في موقع الغلاوية، موقع أبدعت فيه أنامل الانسان أشكالا من التعبير الفني أمد الباحث في يومنا بصور ثقافية نقشت على الصخر منذ آلاف السنين.
1 - موقع الغــــــلاوية:
يقع موقع الغلاوية على بعد 150 كلم شمال شرق مدينة وادان33، ويعتبر من أهم مواقع الفن الصخري في ولاية آدرار، وقد تم اكتشاف هذا الموقع سنة 1935م من طرف TRANCART وتم دراسته من طرف الباحث تيدور مونوا MONOD سنة 1936-1938م34.
يعتبر من أجود مواقع الفن الصخري في موريتانيا وذلك بسبب كثرة الرسوم والنقوش الصخرية فيه، كما تتميز رسومه ونقوشه بالدقة و الوضوح، حيث تعتبر من النوعية الجيدة مقارنة مع باقي مواقع الفن الصخري الموريتاني.
يستنتج من خلال الرسوم و النقوش الصخرية المنتشرة في موقع الغلاوية أن المنطقة كانت تعج بحيوانات لم تعد البيئة مناسبة لها، بسبب الظروف المناخية القاسية كالفيلة و وحيد القرن و الأبقار...
يمكننا أيضا أن نستخلص أن المنطقة شهدت تواجدا بشريا معتبرا خلال الفترة البوفيدية تجسده النقوش و الرسوم الصخرية الكثيرة التي تعبر عن تلك الحقبة، كما أن المنطقة قد عرفت ثقافة صيد الحيوانات بطرق و وسائل خاصة تستخدم فيها النبال والأقواس، وتعتبر البرك و نقاط المياه المكان الملائم للقيام بتلك المهمة ويتضح ذلك من خلال الكمائن المبينة في النقوش والرسوم الصخرية 35.
و يمكن ملاحظة الثقافة البربرية من خلال وجود رسوم لعربات تجرها الخيول، ينسبها البعض لشعب االجرمينتب، ويعتقد أن االلوبيين البربرب هم أجداد صنهاجة!36 نشير هنا إلى أن بعض الدارسين، يرى أن صنهاجة ينتسب بعضهم على الأقل لعرب الأمصار!37 ومع مطلع القرن الأول الهجري بدأ الإسلام يدخل ربوع الصحراء38، حيث كان المد الإسلامي قد أخذ طريقه في شمال إفريقيا مع عقبة ابن نافع، إلا أنه لم يصل بصورة فعلية إلى في فترة حفيده عبد الرحمن بن حبيب الفهري، حيث حفر الآبار في عموم الصحراء وأصبحت الطريق سالكة أمام التجار و المهاجرين العرب، ولم يكتمل القرن الثالث الهجري حتى انتظمت القبائل الصنهاجية في الإسلام.
قرنا بعد ذلك تأسست حركة المرابطين التي أرست دعائم الاسلام شمالا و جنوبا، على يد عبد الله ابن ياسين الجزولي، وقد امتد تأثير المرابطين حتى اسبانيا حاليا وحظي شقهم الشمالي بنصيب وافر في المراجع على حساب الشق الجنوبي الذي لا يوجد عنه إلا النزر القليل من الإشارات وذلك منذ منتصف القرن 5ه حتى القرن 10ه 39.
ومن المؤكد أنه بعد عودة أبي بكر بن عمر من رحلة إلى مراكش جلب معه قضاة و معلمين من بينهم القاضي الحضرمي الذي يقول ابن حزم انه كان قاضيا في مدينة آزوكي40، وقد ساهم أولئك القضاة و المعلمين في ترسيخ الثقافة العربية الإسلامية.
الثقافة العربية ( الحسانية)
لم يقتصر الوجود البشري في آدرار على فترة البافور وصنهاجة أو البربر، بل شهدت تعاقب مجموعات بشرية مختلفة، خلال فترات لاحقة حيث بدأت الهجرات العربية تدخل بلاد شنقيط منذ القرن7ه41، ولم يكن هم أولئك العرب كما يرى البعض نشر تعاليم الإسلام في الصحراء بل كانوا في أغلبهم ينحدرون من بني سليم وبني هلال الذين كانوا يمارسون السطو على الحجيج حتى تم نفيهم من شبه الجزيرة العربية42. وقد بلغت تلك الهجرات أوجها في القرنين 14و15م43.
شهدت منطقة آدرار استيطان العرب فيها بالإضافة إلى صنهاجة - تقول بعض الروايات إنهم من أصول بربرية)44- ليشكلوا إضافة جديدة، تثري الفسيفساء الثقافية و الاجتماعية الآدرارية.
عرفت المنطقة بمكانتها العلمية الرائدة، يقول اباه بن محمد الأمين اللمتوني45 (1330هـ) مبرزا المكانة العلمية الكبيرة لبلدة آدرارية صغيرة اإن أكثر بقاع الدنيا علما آن ذاك تينيكي ومصرب46.
فقد كانت اأكصور آدرارب منابر علم امتد إشعاعها حتى وصل المشرق، وعرفت تلك الحواضر نهضة ثقافية كبيرة خاصة مع قدوم المرابطينب...يمكن أن يؤرخ لبداية تعاطي تداول العلم مع بدء دولة المرابطين، إذ استجلبوا المعلمين وأقاموا الدين بالقوة والموعظة، فترعرع العلم في أحضان المدن التي استولوا عليها كأودغست وغيرها، أو التي تأسست بعيد عهدهم كوادان وتيشيت وشنقيط، فقد كانت هذه المدن تعج بالعلماء والمساجد، عامرة مزدهرة بالثقافة والعلم والنشاط الاقتصادي الحيويب47.
قسم المجتمع حسب بعض الدارسين أيام المرابطين إلى طبقات تقسيما وظيفيا لا سلاليا وتلك الطبقات هي:
العرب (بنو حسان).
الزوايا (المجموعة التي تهتم بالعلم والقضاء).
اللحمة (المجموعات التي لم تحتمى لا بالقلم ولا بالسيف).
يرى البعض أن هذا التقسيم الوظيفي من أيام أبي بكر أبن عمر، إلا أنه تعزز بشكل كبير بسبب الحروب والنزاعات التي طرأت (حرب شربب)، وقد أضحى المجتمع الا مكان فيه إلا لمن لا يحمل مهندا طريرا أو كتابا مطرراب48، و من ما يستدل به في الموروث الشعبي المثل الشائع االعيش ألا تحت الركاب والل تحت أكتابب، ويعني ذلك أن الحياة الكريمة لا تكون إلى بسلاحي القلم أو السيف.
وقد أتم بنو حسان ما أسس له منذ القرن الأول الهجري من تعريب وأسلمة للمجتمع ووجدوا سندا من الصنهاجيين وانطلق تياران: تيار التعلم وله في الزوايا قوة ومدد، وتيار التعريب وله في بني حسان عدة وعدد49. حتى أمست الثقافة العربية الإسلامية هي السائدة في المجتمع واندثرت لغات مثل الغة آزيرب ولغة صنهاجة (أكلام أزناكة)50 لصالح تيار التعريب.
ومع سقوط حكم المرابطين وتلاشي دولتهم تشتتت المدن وتفرقت المجموعات السكانية في الصحراء بحثا عن الأمن والمرعى، لكن ذلك لم ينقص من حبهم للعلم وتمسكهم به بل ظهرت المحاظر51 أو مايسميه البعض بظاهرة االبادية العالمةب مشعل علم يضيء عتمة الصحراء.
نخلص إلى أن المجتمع الآدراري نتاج لثقافات متعددة، تعاقبت على الاستيطان في منطقة آدرار، تلك المنطقة التي شكلت مستقرا للإنسان منذ العصور الحجرية، ففي الباطن استقر الإنسان منذ فترات سحيقة وقد تكون إقامته قد طالت أثناء العصر الحجري في مناطق كالغلاوية والبيظ.
تلك المناطق التي تتوفر على مقالع الحجارة بكثرة، حجارة كانت عصب الحياة و أداتها الفاعلة، قبل أن يكتشف الخزف وتطوع معادن النحاس والحديد في فترات لاحقة.
يعرف آدرار بوجودالكرايرب مناطق وجد فيها االإنسان البافوريب مبتغاه ومارس الزراعة وغراسة النخيل، بل ربما يكون أسس مدنا!
وقد شكل القرن الأول الهجري تاريخا فاصلا حيث بدأ الإسلام يدخل المنطقة، لكن دعائمه لم ترس على أسس صلبة إلا مع المرابطين في القرن 5 ه، ووجدت فيه القبائل الصنهاجية ضالتها الروحية، ومع مطلع القرن 7ه بدأت القبائل العربية تستوطن المنطقة، وتنشر ثقافتها متحالفة مع الصنهاجيين الذين كان لهم السبق في ترسيخ دعائم الإسلام في الصحراء، فكان من النتائج المباشرة لذلك اندثار بعض اللغات (اللغة الأزيرية، لغة أزناكه...) وحلت اللغة العربية واللهجة العامية الحسانية محلها.
نخلص إلى أن آدرار موريتانيا شهدت منذ آلاف السنين تعاقب و تلاقح ثقافات مختلفة، خلفت إرثا ماديا عريقا كالمدن العتيقة (شنقيط، وادان) التي صنفت تراثا عالميا من طرف اليونسكو سنة1996م، والمواقع التاريخية العامرة بالمنقولات الأثرية والرسوم والنقوش الصخرية التي تعبر بأسلوب فني عن ثقافات بائدة، كما خلفت تراثا لا ماديا غنيا تجسده الحكايات والأساطير والمرويات الشفوية. التي تداخلت فيها الأسطورة بالحقيقية لتعطينا موروثا ثقافيا فريدا، تناغمت فيه ثقافات السود (غانا، أودغست) والبيض(بلاد المغرب). كما مدته روافد ثقافات شعوب وأمم تعاقبت على المكان عبر الزمن فأثرته وأكسبته تمازجا وتنوعا قل أن تجد له نظير، فثقافات العصور الحجرية لا تزال شواهدها ماثلة للعيان و ما تلاها من ثقافات بافورية وبربرية وصنهاجية و عربية، أكسبت آدرار فسيفساء ثقافية ثرية يمكن ملاحظتها من خلال الثقافة الشعبية الآدرارية.