القصة: لم يكن فارس أولاد أحمد بن دمان أحمد ولد ابرهيم اخليل يظن أن ظِلّ خيمة أحمدو ولد التّف الوارف بين قيعان "انتيدبان" وصفيف شوائه، المعد على شرفه، ليس له فيه نصيب، وأن أحد أصحابه "لحمي" سيقف بباب الخيمة مستعجلا النهوض لأجل استرجاع سرحه من جيش يبلغ قوامه سبع مائة فارس "غزي المنكاسة" ، صحيح أن جسارة ولد ابراهيم اخليل وقوة شكيمته كانت كافية لاسترداد السرح ، لكن المهمة كانت مغامرة حقيقية ، فلا بديل عن استرجاع السرح حتى تظل اتفاقية الحماية قائمة مع "صاحبه" ولا نصير لمعارض لحكم الأمير أحمد سالم تحت ظل إماته.
المقال : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) يوسف (9)
هكذا قالها إخوة يوسف من قبل ، وهكذا نرددها مغلفة بأغلفة أخرى بشكل شبه يومي. فمن لم يرددها كان ظلاميا رجعيا استرقاقيا عنصريا ، لكنها أيضا قد تغفر لك جميع خطاياك في الماضي لو قلتها ولو في مغلف تعبيري غير هذا.
حظي البيظان بحظوة فريدة على هذه الرقعة مذ أقاموا عليها لا تقل عن حظوة يوسف في وجه أبيه، فموريتانيا أرض تحب البيظان، وحتى ولو رأى آخرون أن ذلك الحب من طرف واحد فيبدو لي أنهم ايضا يحبونها، فقد استثمروا ما طالت أيديهم من وسائل القوة والغلبة عسكريا كان أو اقتصاديا أو ثقافيا أو دينيا أو سياسيا ليكونوا أسياد هذه الأرض وتكون الغلبة فيها لصالحهم ، شأنهم في ذلك شأن بقية الأمم ، ومن المعلوم أن الغلبة وكتابة التاريخ عادة تكونان من حظ القوي والمنتصر.
ورغم الهزات والبلابل وكثرة المشتكين والمتآمرين فقد استطاعوا أن يبرهنوا على أهليتهم القيادية نوعا ما، فقد حافظوا على الروابط التي تربطهم بالجيران من بقية الأعراق في أغلب الأحيان، كما ظلوا يحاولون دائما تجنب الحروب الخارجية ويجنحون للسلم ، منذو نشأة الكيانات الأولى لشبه الدولة.
ولذلك فإنني أستطيع أن أمنحهم درجة- جيد جدا دون حرج- إذا حاولت تقييم ديبلوماسيتهم وعلاقتهم بالآخر من خارج دولتهم. فرغم تمركزهم في منطقة من أفقر بقاع الأرض وأكثرها حروبا وأهلية لاضطرابات إلا أن جنوحهم للسلم ظل أقوى من ذلك ، فقد تجاوزوا معظم الأزمات قبل المواجهة ، رغم عدم خشيتهم الحروب، وتاريخهم الوسيط مليئ بالشواهد على ما أقول.
ورغم أنهم انجرفوا خلف حرب الصحراء إلا أنني في هذا المحل لا يمكن أن أصنفها كحرب خارجية -على الأقل في حينها- فمنطقة الصحراء ظلت في المخيال البيظاني جزء من أرض البيظان لا يتجزء ، بيد أن الحدود الاستعمارية قد عملت على طمس ذلك الطيف لاحقا بمفعول طلاسة الرضى بالأمر الواقع.
وعموما فتلك الحرب لا يمكن أن تضع نقطة سوداء من وجهة نظري في صحيفة حسن الجيرة الذي امتاز به البيظان نظرا لعوامل ذكرنا أحدها آنفا وسنعرض لها بالأمثلة.
وإذا كان عبدو اديوف قد قال في مذكراته أنه هو من جنح للسلم إبان الأزمة مع السينغال ، إلا إن جنوح طرف واحد لا يكفي في وجود عدو لا يرغب في السلام ، وبالتالي فإنني سأحتسب نسبة لا تقل عن الشطر للبيظان ، من عموم نقاط حلحلة تلك الأزمة. وهنا سأخرج بنتيجة واحدة وهي أن البيظان أحد الشعوب المحبة للسلام.
إن العمل على تفكيك المنظومة العامة للبيظان الذي نشهد الآن إرهاصاته وأحداثه الدرامية والذي يعمل على حصر مفهوم "اتبيظين" في بعد "لوني" و "وظيفي" -القلم والبندقية- أو دعنا نسميهم "بيظان المركز" على غرار أحد الباحثين ليعد أكبر خطر على تلك الكينونة التي استطاعت أن تحافظ على استقلاليتها وخصائصها طوال القرون الماضية ، كما يعمل على تحويلها إلى أقليات متناحرة وبؤرة من بؤر الحروب الأهلية المنتشرة في القارة.
ونحن هنا إذا نظرنا إلى المظالم المزعومة "في الأغلب" والتي يروج لها أنصار التفكك سنجد أنها مجرد حساسيات نتجت عن سوء فهم نقاط تكاملية في أية منظومة وسنة من سنن الكون التي قام عليها أزلا، وظلت موجودة في كل مجتمع وستظل.
فعلاقة بيظان "المركز" ب "إيگاون" ظلت على مدى العصور علاقة تكاملية، رغم أن الفائض فيها بمعيار المصلحة، يكون دوما لحساب إيگاون، فبالقلم والحاسبة لا نجد إيكاون يقدمون للبيظان أي خدمة عدى بعض المحفزات الروحية -الغناء والمدح- وهي خدمات قد يجدها البيظاني عند غير إيگيو ، في نفس الوقت الذي يمكن للبيظاني أن يقدم "تحويشة" عمره وضعفها ديونا في ذمته، كي يلبي رغبة إيگيو دون أن يعبر له عن امتنان عليه.
ونفس الأمر نجده في تعامل البيظاني مع "المعلم" رغم أن الأخير يقدم شيئا ملموسا، وهو أدوات وصناعات يدوية ، إلا أن الأجر الذي يتقاضاه مقابلها إضافة للتشجيع والمكانة قد يتجاوز قيمتها السوقية بعشرات الأضعاف، كما أن الأمر يظل كذلك دون إشعار أو تحسيس لـ "المعلم" بأن للبيظاني منة عليه، بل يبقى كل ذلك حقا مشروعا للمعلم تكفله العادة.
وإذا انتقلنا إلى العلاقة بين البيظاني والحرطاني، فإن الأمر سيختلف عن البقية فقد اضطُهد الحرطاني كثيرا من قبل البيظان، ولا خلاف على ذلك ، إلا أن ذلك الاضطهاد كان حالة عامة ووضعية عالمية، وإذا قارنا الفترة التاريخية بين نهوض أوروبا وأمريكا وتطبيق قيم المساواة في تلك الدول ، وبين اعتراف الأمم المتحدة بموريتانيا كدولة ، فإننا سنجد أن البيظان كانوا أسرع بكثير من الغرب في الإقلاع عن ظاهرة الاسترقاق ، وفي معالجاتها أيضا. وبالتالي فإن المقارنات يجب أن تعتمد نفس المعايير في كلا الطرفين ، وإلا لكان ميزانها يعاني من حَوَل معياري.
ولعل أكثر تلك العلاقات تكافؤ كانت تلك التي تجمع بيظان المركز با "اللحمة" حيث كانت ترتكز على الحماية مقابل الزكاة والغرامات. ووفاء البيظان بتعهداتهم في تلك النقطة كان له أكبر أثر في تاريخ موريتانيا فقد يتحارب فصيلا بيظان المركز بسبب ذلك ، أعني أن حرب "شرببه" كانت نتيجة لشيء من هذا القبيل.
وبالمجمل فقد ظل بيظان "المركز" على مر العصور يحافظون على إعالة تلك الطبقات لو تطلب الحال ذلك ، وحمايتها في الحروب ، حتى ولو كلفهم ذلك خوض حروب وغارات إضافية. أو دعنا نقول بمصطلح آخر ظل بيظان "المركز" مستغلون من طرف بيظان الأطراف. صحيح أن التاريخ أثبت وجود حالات مشابهة في الاتجاه الثاني لكن مقارنتها بالأخرى غير ممكنة ولا عادلة. وحتى بعد أن اختلط الحابل بالنابل وتم تحديث المصطلحات والمعايير فقد ظل الحال على حاله في نواح كثيرة خصوصا إذا تعلق الأمر بقضايا ذات بعد نوازلي أو مفاجيئ. ولا أدل على ذلك من أن بعض الناشطين في الميدان الانعتاقي يشتكون من العبودية الاختيارية. أما بقية ألوان الطيف الأخرى -غير الحراطين- فمازلت تحافظ على خصائصها وعلاقاتها بالمركز، وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بالجانب النفعي.
إن نظرة الدونية التي يحس بها بيظان الأطراف من قبل بيظان المركز لهي نتيجة طبيعية لأي علاقة لا تقوم على الندية ، فما من عامل إلا ويرى نفسه كذلك أمام مشغله مهما بلغ المشغل من تواضع ، لكن ليس من العدالة أن نحمل المشغل مسؤولية قصور عامله عن نيل رتبته ، بل الأولى أن نحث العامل على مواصلة الخبب كي يجتاز المراحل التي قطع مشغله. كما أن فك الاتباط هنا بين المشغل والعامل لن يكون حلا موفقا فربما يفاقم الأزمة أكثر. لكن تكافؤ الفرص من قبل القائمين على الشأن العام ربما يحد من وجود تلك الأزمة.
إن التعامل بحساسية مفرطة بين أجزاء الكتلة الواحدة أمر خطير ، وربما ينتج عنه تماس يولد شررا يكون سببا في اندلاع حريق هائل ، لذلك فإن من واجب الإخوة أن يتجاوزوا عن زلات بعضهم ، كما أن افتعال الأزمات وبناءها على أسباب جد تافهة هو أمر غير مقبول ، فمن تفرغ لصيد الأخطاء لابد أن يصيد شيئا ولو قل. ومن تعود ذلك أبدل الحبة قبة في الغالب.
وإذا انطلقنا من منطلق واقعي غير مجامل فإننا نجد أي شخص يمكن أن يعيش دون الآخر مهما كان قريبا أو غريبا، ثم إن صاحب المركز سيكون أقل خسارة من الأطراف في أغلب الأحوال، كما أن العلاقة التكاملية بين البشر مبنية على الأخذ والعطاء ، فلا يوجد إيگيو يمدح مجانا ، ولا يوجد "معلم" يعمل مجانا ، ولا لحمي يغرم مجانا ، ولا حرطاني يعمل مجانا -في الوقت الحاضر- كما أنه أيضا لا يوجد بيظاني يعطي مجانا بالطبع ، لذلك فإنه ومن بعد منطقي فالكل يخدم صاحبه مهما كانت الرتبة أو المقام (وبعضهم لبعض وإن لم يشأو خدم).
إن الإفراط في الحساسية تجاه الأخوة أمر بالغ الخطأ ، كما يجب أن ننزل الأقوال منزلة أصحابها ، ففي الأخير فإن بيظان المركز يتغافلون عن الكثير والكثير في الفترة الأخيرة ، وربما كان ذلك التغافل هو ما بوأهم منزلة يرى آخرون أنهم حازوها بوسائل أخرى. لكن أؤكد لكم أن التجمهر على المواطن الآسنة سلوك ذبابي وأن بيظان المركز أدركوا مبكرا أنه يجلب الضرر لمرتادها أكثر من متجنبها، وأن تلك الطاووسية ربما كانت أكثر نقاط قوتهم ، لأنها ببساطة هي أحسن محفز نفسي لمعالجة الشعور بالدونية والقصور أمام الاخر ، ولأن العارفين قد اتخذوا هذا السلوك منهجا ليكون لهم عزاً.
للعبرة : من أخلاق "أهل إيكيدي" إذا أساء إليك أحدهم فتجاهل الإساءة ، فإن أتاك معتذرا "وسيفعل" فتجاهل سبب الإعتذار.
الشيخ المامي