جلس الحسين , وهو تلميذ ذكي ومجتهد بجوار "الدكتور" على طاولة واحدة...فنظر إليه الدكتور ملِيًّا ,نظرة تعبر عن الكثير من الإزدراء والتعالي ثم ترك المكان وجلس على طاولة أخرى.
دخل الأستاذ...إنها أول حصة من دروس السنة الإعدادية الأولى بعد عطلة صيفية جميلة ...استمتع فيها الأساتذة والتلاميذ بالإجازة...كلٌّ على طريقته وحسب ظروفه...
"الدكتور" قضاها في مدينة طنجة بأقصى الشمال المغربي على ساحل البحر الابيض المتوسط...والدكتور ـ بالمناسبة ـ ليست اسمه الحقيقي , بل هو "أحمد" والدكتور إسمٌ أطلقته عليه أمه تفاؤلا وتيمنا..رجاءَ أن يحمل اللقب ذات يوم في المستقبل..
أما الحسين فأمضى معظم العطلة بين الأهل والأصدقاء في ربوع "تكَانت" متنقلا بين أودية النخيل في موسم "الكيطنة" ومستمتعا بالمناظر الخلابة والتضاريس المتنوعة....ما بين مرتفعات شاهقة , وسهول خضراء منبسطة , وشلالات تقذف شحناتها من قمم الجبال في رحلتها الأبدية الخالدة ,تروي "البطاح" والأودية أسفلها , فيتدفق الماء منسابا مختالا , يروي أرضا عطشى وأكبادا ظمأى بالماء العذب ,الزلال الصافي...
عاد الحسين مشحونا ,محمّلا بذكريات جميلة في أول رحلة له خارج العاصمة...تعرفَ خلالها على أصدقاء جدد..عاش بين الأهل والأقرباء...علِم بنجاحه وتفوقه في مسابقة "كونكور" أثناء وجوده في تكانت عبر المذياع...فرح فرحا شديدا....وفرحت أسرته..دقّت الطبول وعلَتْ الزغاريد فتردد صداها بين الأودية والمرتفعات وواحات النخيل.
دخل المدرسة الاعدادية اليوم وهو في غاية المرح والسرور والنشاط , والاستعداد الذهني...غير أن قيام "الدكتور" من جانبه بعد قوله له " كُومْ مِن هَوْن..انت بُوكْ امَّالو حَلَّاقْ بويَ" ـ وأمام الطلاب ـ ترك في نفسه جرحا عميقا أفسدَ عليه فرحته , لكنه أسرَّ ذلك في نفسه وتبسمَ أمام زملائه ..وأخرج دفاتره وأقلامه واستعد للدرس الجديد...
لم يستسغ الدكتور ولم يتقبل فكرة أن يكون صديقا للحسين في يوم من الايام رغم الروابط القوية التي ربطت والديهما محمد وإبراهيم....ففضلا عن قرابة النسب ...لقد كانا أكثر من صديقين , بل أخوين ,رغم التفاوت المادي بينهما...
قدِما إلى نواكشوط معا يحملان "جلبا" من الغنم بينهما مناصفة....باعا ...ربحا كثيرا....أخذ كل واحد نصيبه..
استثمر محمد في قطع غيار السيارات عملا بنصيحة قريب له ...وفتح ابراهيم ورشتين في السوق للخياطة ومحلا للحلاقة...
محمد ارتقى ـ بعد سنوات ـ من مجرد صاحب دكان لبيع قطع الغيار إلى أحد أكبر التجار والمستوردين بالبلد....في حين خسر إبراهيم كل شيء ولم يتبقّ إلا محل الحلاقة الذي يعمل فيه بمفرده.
تباعدت فترة لقاءاتهما ...محمد انتقل إلى قصره الجديد بتفرغ زينة...إبراهيم ما يزال في بيته المتواضع الذي يسكنه منذ قدومه إلى العاصمة....غير أن الود لم ينقطع بين الرجلين...
محمد اعتاد أن يحلق شعره في محل إبراهيم ...وأحيانا يطلبه في المنزل إن كان مشغولا فيستقبله بفرح وسرور...يتبادلان النكات والطرف وحكايات من زمن الصبا والطفولة...كان محمد حريصا على أن تظل العلاقة بينهما كما كانت..بغض النظر عن الفارق المادي..!!!
بعد سنوات طويلة.....وذات مساء ,كان الحسين واقفا في بهو العيادة الفاخرة التي افتتحها مؤخرا عقِب رحلة دراسية شاقة وطويلة في الخارج.. عاد بعدها طبيبا جراحا متخصصا في أمراض النساء.. كان واقفا...ينظر من البهو ..في لحظات يسرقها أحيانا من عمله ...اعتاد أن يخرج من المكتب...يتمشى ولو بضع خطوات...
فجأة!!
توقفت سيارة فارهة أمام العيادة...تبعتها عدة سيارات أخرى ...رجال ..نساء ..صراخ ...
عويل امرأة تكاد تموت...تنزف ...
الحسين يأمر الممرضات بالحضور بسرعة ...تدخل المريضة غرفة العناية المركزة....
بعد أربع ساعات ,كأنها دهر طويل ,يخرج الطبيب...
يُمسك شخص بثوبه من الخلف يصيح : دكتور ماذا جرى لزوجتي ...هل هي حية ..ميتة ...ماذا عن جنينها؟
دكتور..هذه زوجتي..سأعطيك ما تشاء...أنقذها ...أنقذ جنينها...أرجوك ...أتوسل إليك....يُخرج رزمتين من فئة 5000 أوقية ...دكتور سأعطيك أضعافها...فقط أريد زوجتي وجنينها سالمَين..
رفع إليه بصره...عرفه..انه هو......
التلميذ المتكبر.."الدكتور"...تذكر تلك الكلمة الجارحة..."أنت بوك امالو حلاق بويَ"
وضع يده على كتفه...قال : أبشر..العملية ناجحة...مبروك ..رزقتَ ولدا جميلا..إنه بصحة جيدة..تعالَ لتستريح معي في مكتبي وتشرب كأسا من الشاي ريثما تُجري الممرضات بعض الترتيبات اللازمة لخروج الام وولدها من غرفة العمليات....
رُدَّ نقودك الى جيبك....
جلسا معا...قدَّم إليهما العامل كأسين من الشاي...وبعد أن اطمأن الرجل على زوجته وولده...سأله الدكتور الحسين :
ألمْ تعرفني بعد...ألا تدري؟......
"أنت بوكْ امالو صاحب بويَ وابن عمه"
رحمَ الله الجميع..
طأطأ الدكتور "المزيّف" رأسه خجلا من الدكتور الحقيقي!!
بقلم الكاتب/ محمد محمود محمد الامين