ذهبت صباحا للرياضة، وسلكت الشارع الفاصل بين دار البركة والهندسة العسكرية، وعند اقترابي من نهاية الشارع وأنا أسير بين فيلاهات عين الطلح، تراءت لي كثبان رملية في نهاية الحي السكني، فقررت اعتلاءها حتى أستنشق الهواء النقي خارج المدينة على أديم تلك الكثبان المبللة بالمياه المطرية، والعصية على حركة السير الفوضوية وعلى رمي أوساخ الساكنة البدوية، وبينما انا استمتع بنسيم الصباح الممزوج بأريج الطبيعة، فإذا بي أقف أمام بيداء تناهت رؤيتي في الأفق دون أن تنتهي سهولها، ونظرت إلى الخلف فإذا بمدينة انواكشوط آخذة في التوسع والانتشار طولا وعرضا تلتهم الفلاة بسرعة لا تقارن إلا بسرعة اختفاء الاموال العامة من خزائن الدولة.
سألتني نفسي لماذا لا تحاول الحصول على قطعة ارضية من هذه الأرض الفسيحة ؟
فقلت لها هذه أرض الأغنياء، لا يقدر على اغتنائها إلا المتنفذون من الموظفين السامين ورجال الاعمال. فقالت لي وانت بعد الذي أبليت من عمرك في الدراسة وما حصلت عليه من الشهادات العالية فلماذا لا تكون موظفا ساميا كالآخرين ؟
فقلت لها انه لا لوم علي في ذلك، فلو كانت العدالة موجودة لكنت قد حصلت بإذن الله على وظيفة مناسبة منذ خمسة عشر عاما، فقد شاركت في مسابقات عدة ولم انجح نظرا لعدم نزاهتها، اتذكر على سبيل المثال أنني شاركت آخر مرة في مسابقة المستشارين الديبلوماسيين سنة 2006 على ما أعتقد وكان رقم مقعدي في الامتحان 483, وكان بجانبي الرقم 484 لم يحضر صاحبه طيلة ايام الامتحان، وكانت مفاجأتي كبيرة عندما قرأت إسم هذا الغائب مقابل الرقم المذكور على لائحة الناجحين، وانا الذي أجريت الامتحان بكل جدية واجتهاد ظهر اسمي على لائحة من لم يحالفهم الحظ في النجاح ولله الحمد، لم أشارك بعدها في اي مسابقة نظرا للخلاصة السيئة التي خرجت بها وهي ان معايير الإكتتاب في دولتنا العزيزة تعتمد على النفوذ والمحسوبية لا على الكفاءة والمردودية.
سألتني نفسي أيضا متحسرة، لم لا تسلك طريق التجارة والمقاولة علها تكون اسهل من التوظيف ؟
فقلت لها، لا على العكس، فهذه الأخيرة أصعب لأنها تتطلب التمويل وتتطلب الحصول على الصفقات، وهذان لا يمكن الحصول عليهما إلا بالطريقة التي يحصل بها على التوظيف، ألا وهي الاعتماد على أهل النفوذ والرشوة والزبونية والمحسوبية؛ وهذه الطرق الملتوية، وإن كنت لا أرضاها لنفسي كمسلم يخاف مقام ربه، فهي ليست متاحة لكل من هب ودب، لأن الحصول عليها يتطلب هو الآخر حمل جنات أحد المتنفذين على الأقل، موظفا كان أو تاجرا أو وجيها تاجرا هو الآخر يبيع ولاء الناخبين.
فلم تستسلم النفس التواقة للعدالة والعيش الكريم، وسألتني لماذا لا تدخل الميدان الإنساني فأهله يحصلون على التمويلات الكثيرة ؟
نهيتها عن هواها وقلت لها أن العمل الإنساني الموجه إلى تحصيل الأموال غير إنساني وغير شرعي، والعمل الإنساني الضامن للتمويل ينقسم فينا إلى ثلاثة أنواع، إيديولوجي و حقوقي ورسمي ترعاه في أغلب الأحيان النخب الحاكمة، فالنوع الأخير ليس متاحا إلا لمن خولهم الشعب تدبير أمره وسخروا نفوذهم لتحصيل الثروة بشتي الطرق المباحة وغير المباحة، ومن تلك الطرق المشبوهة استخدام عباءة العمل الإنساني لنهب الثروات الوطنية واستجداء التمويلات الخارجية؛ أما النوعان الأولان فهما يعتمدان على الدعم الخارجي أساسا، ويكون الدعم سخي كلما كان المدعوم أكثر ولاء للجهة الداعمة على حساب وطنه، ويزداد السخاء في الدعم كلما ازداد المدعوم تطرفا ومحاربة لوطنه وثوابت أمته؛ وأنا أربأ بنفسي أن أكون أداة للإضرار بوطني مهما كان الثمن.
بلادي وإن ضاقت علي عزيزة + وأهلي وإن ضنوا علي كرام
احتارت النفس المسكينة وقالت : ما دامت الوظائف للأغنياء والصفقات للأغنياء والعمل الإنساني أضحى غطاء للمتاجرة بالقضايا العادلة للأمة، ما السبيل للفقير الصابر إلى الحصول على حياة كريمة في وطنه ؟
قلت لها مهلا، لقد بدأ الفساد ينخر جسم الدولة مع مطلع الثمانينيات وظل يستفحل أفقيا وعموديا حتى كاد يغضي عليها، إلى أن جاء الرئيس الحالي محمد ولد لشيخ الغزواني وأعطى للشعب عهدا – وللعهد عنده معنى- بأن يبني دولة القانون والمؤسسات، وقد بدأت ملامح ذلك تلوح في الأفق من خلال التحقيق في بعض ملفات الفساد والالتزام باحترام مبدأ فصل السلطات وتعيين بعض الكفاءات الغير ملطخة بشبهات سوء التسيير, مع أن إرادة الإصلاح لن تجد نفعا ما لم تصاحبها الصرامة في دقة المحاسبة سلبا و إيجابا واعتماد سياسة الرجل المناسب في المكان المناسب. لا سبيل إلى العيش الكريم وضمان الحقوق إلا بتطبيق العدالة.
۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ۞
صدق الله العظيم