لم تكن الثورة التي قاد المأمون ضد أخيه محمد الأمين وليدة لحظة عابرة، فقد استمر التخطيط لها ووضع دعائمها وتأجيج أتونها لفترات طويلة، حتى نجح الوشاة أخيرا في إشعال فتيل تلك الفتنة الكبرى، وخلق قابيل مُحدَث، وضع حدا للعصر العباسي الذهبي.
....
ليس من الواضح أننا عبرنا بالفعل، فما زال جمر الغضى يتأجج تحت وعث الرماد الخادع، وليس من المعقول أن ينخدع الحناش المتمرس بحفنة تراب تغطي جسد الأفعى؛ فالوضع الطبيعي أن تُخشى غوائل كل شَجاع من السميات، حتى ولم تم تدجينه، وانسجم كليا مع حياة سكان البيت، فالعِرق دساس، والهوى غلّاب، ومزدوج الولاء لايؤمن غدره، وذيل الكلب لن يستقيم حتى ولو عُلّق عليه قالبا.
الحقيقة أن تدجين القوارض له خطورته مهما تجاهلنا ذلك وتعملنا معه بمنطق السلمية والتجاوز؛ وتكاليف تربيتها أغلى بكثير من ثمن القضاء عليها؛ حتى الطمأنينة وحدها تكفي ثمنا يارجل.
....
ربحت المقاربة الأولى لحكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أكثر من حرب ضروس؛ فقد كسبت معركة "المرجعية" ؛ وساقت معظم من تحوم حولهم شبهات الماضي إلى محشر الحساب رغم قوتهم النظرية، وأخمدت نيرانا كان الملأ يأتمرن لإضرامها في مدن شتى، وطبقت أكبر مكسب للحكم الحالي؛ وهو ذلك الأجماع الوطني النشاز في دولتنا، التي تولد صراعاتها من شتى الثنائيات، جهوية وقبلية وعرقية ومذهبية، وحتى البقر والأبل استطاعت أن تولد من بينهم ثنائية لشحذ جوهر الصراع!!
لكن يبدو أن هناك من لعب لأهداف مشكوك في سلامة صدر صاحبها على وتر النواقص الترَفيّة للمقاربة، ليفكك عراها، ويزيح قوادمها من مراكز القوة، إما لمواقع أقل تأثيرا في المشهد، أو خارج الرقعة بكاملها؛ وهنا بدأت الكافيّة ترخي سدول ليلها على الساحة، ملقية بأقوى عتماتها على الأذرع السياسية.
ونتيجة لذلك انفرط عقد الإجماع داخل الأذرع السياسية، وأخصب الشقاق في عرصاتها وفقس؛ عدى الحزب -المعدل وراثيا- من أول اختبار له بقوة القبيلة والمال، وليس بقوة السياسة؛ وضاعت إرادة الإصلاح، وقوي نفوذ الأشخاص على حساب الدولة، وبِيع المخلِصون للنظام في سوق الولاء لأشخاص مشكوك في ولائهم، وبأبخس ثمن؛ وصار الحزب الحاكم بورصة للمقاولات، فأجهض الحلم، واستفاق الكل من غفوته.
....
أهملت القطاعات التنفيذية مهمتها في هذا الجو المتسيب، فعمت الأزمات شتى القطاعات الخدمية.. المياه.. الكهرباء..الوقود.. أسعار المواد الأساسية.. الأنترنت.. البنى التحتية، وهاجر الشباب.
أصبح كل فاعل متفرغ لخدمة ذاته وأهداف فقط على حساب مصالح الشعب، وضاع الأمل في عمل الفريق، وأصبح الوفاء بتعهدات الرئيس مصدرا لتندر المدونين، وفسدت الأخلاق وعم الطمع والنفاق.
....
يكاد يجمع الباحثون على أن المستعصم كان بإمكانه أن يجنب خلافته السقوط، لو لم يستوزر مؤيد الدين بن العلقمي، فقد شرب بن العلقمي المر من المقربين من المستعصم في بداية حياته السياسية؛ لكنه مع الوقت استطاع أن يكسب ثقة المستعصم، فاستوزره المستعصم، ودخل القصر بحماره، وبدأ الثأر لماضيه الموتور، ولم يكتف بتسليم بغداد للمغول فقط، بل سلم عنق المستعصم وذويه لسيوف هلاكو.
....
كثيرا ماسمعنا عن عدم رضى الرئيس غزواني على أداء فريقه؛ لكننا لم نسمع يوما عن بحث جدي داخل غرف صنع القرار عن سبب المشكلة، اللهم إلا ماتعلق الأمر بزيارته الأخيرة ل "ابني نعجي" وماترتب عليها من إجراءات تجعل الرئيس يقضي إجازته في ربوع الصبا، متزودا بالحد الأدنى من راحة البال.
لكن هذا مجرد مخدر مرحلي، فالباحث عن مكنون المشكلة سيجد جسد النظام يعاني من عدة أورام غير حميدة، إن لم تعالج بشكل جذري، سيبقى مستقبله في خانة المجهول.
وغني عن القول أن أول هذه الأورام المسببة للألم داخل الجسم القائم هو أمن المسؤولين من العقوبة، فمن أمن العقوبة ساء الأدب..
ولعل المشكلة الكبرى التي يعاني منها الحكم الحالي هي المشكلة التي عصفت بالخلافة الأموية، وهي تقريب البعيد وإبعاد القريب؛ أو دعنا نقول تقوية جبهات للمتربصين على حساب جبهة المخلصين.
فمنذ أن تم تحييد رجال السياسة من الجبهات السياسية، وزُجّ برجال الجباية في أمور السياسية، وحُيد المخلصون لحساب المؤلفة قلوبهم، وأدخل مزدوجوا الولاء بلاط الحكم، بدأت الأمور تنحو منحى غير مطمئن.
....
رغم أن أبا مسلم الخرساني أبلى حسنا في الدعوة لقيام الحكم العباسي، وقاد الصراع مع الأمويين مرحليا من أجل تأسيس الخلافة العباسية، ومع مابذله قحطبة الشيباني هو الآخر من جهود، كي يتم تأسيس هذه الخلافة، إلا أن القضاء على حكم مروان الحمار واستتباب الأمر للسفاح لم يرى النور حتى قاد الصراع عبد الله بن علي (عم السفاح) حينها تمت هزيمة الأموي وأعلن قيام الدولة العباسية.
....
ليس من المهم في بلد يعيش أزمات في صعد مختلفة، أن يحترم صانع القرار فيه تقسيمات ومعادلات وضعها حكام مراحل وحقب غابرة، فما يبحث عنه حاكم تحيط به عدة أزمات، هو رجال الحلول، وليس رجال التأزيم، وليس من المهم إن كان فلان أو علان من الولاية التي ينحدر منها الرئيس أولا، مايهم التركيز عليه هو فاعلية هذا الشخص، فنحن نبحث عن حلول مستعجلة.
هب أننا احترمنا معادلات الماضي ولم نصل من خلالها للحلول المبتغاة، فماذا كسبنا إذا..؟!
أنا أجيب عنك.. لقد وزنا أمورنا بمقاييس الآخر، ولم نحترم معاييرنا، ولم نحترم مراحلنا، وعدمنا أنفسنا، ولم نحترم العقد الذي يربطنا بالناخب، وضيعنا مسؤولية حملنا الشعب إياها!!
حقا إن بلدنا هذه الفترة يعيش على وقع أزمات مختلفة، لكن أبرز وأهم أزماته المستعصية هي أزمة الأشخاص، فنحن نعيش أزمة أشخاص!!
لاتوجد ثوابت في السياسة، فإذا كانت السياسة فن الممكن، فهذا يعني أنها فن المتغيرات، ولامكان للثوابت في كناشها..
ماعلى الرئيس الآن، هو تقريب أهل الثقة، ومنحهم الصلاحيات اللازمة، والابتعاد عن المؤلفة قلوبهم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل؛ فبمنطق العقل، لايمكن أن نكرر نفس الطريقة ونبتغي نتائج مغايرة، وهؤلاء قد خربوا الماضي وليس من المعقول أن يترك بناء المستقبل في أيديهم، ليكون عليهم ضدا.
للعبرة: لن يحك للأجرب أحسن من يده.
إضافة تعليق جديد