الساعة تشير إلى الحادية عشرة وبضع دقائق انطلقت حافلة نقل تابعة لشركة سونف "سيئة الصيت" من الناحية الغربية لمدينة ألاك، بعد تناول ركابها وجبة عشاء عقب يوم صيام طويل بدأ من صبيحة اليوم الفارط، نتيجة تعطل حافلة أخرى لنفس الشركة "الرائجة" بمنطقة غير بعيدة من أشرم أقلتهم من مدينة العيون والطينطان وكيفة، وانتظار حافلة بديلة دام زهاء خمس ساعات على قارعة الطريق.
على سلالم الباب الأمامي جلس رجل أربعيني مكان مساعد السائق وبدأ إعداد شاي أذهب أريجه نوم بعض الركاب "الدَّوْخَى" لتعلوا أحاديث المتسمرين في مقدمة الحافلة ونمت إلى مسامع بقية الركاب حواراتهم في الأمن والسياسة والتعايش و"الرجولة".
في وسط الحافلة يغشى النعاس مجموعة أخرى من المسافرين ويتنامى في نفوسهم الخوف من ليلة يرجحون قضاءها في العراء، على كثبان بتلميت الموارة، نتيجة قرار وزارة النقل القاضي بإغلاق الطرق بعد منتصف الليل، لينتهي الأمر ببعضهم إلى التسابق لسجادة صلاة كانت مرمية على أرضية الحافلة، علها تقي من يظفر بها برودة الأرض أو رطوبة الجو بعد أن أشبعوا قرار الوزارة نقدا وتسفيها.
في أقصى يمين الصف الثالث من مقاعد الحافلة اليسرى، كنت أجلس وأرفع وجهي بين الفينة والأخرى عن هاتفي - بعد أن بدأت تدوين أحداث الساعة الأخيرة للرحلة - إلى ساعة الحافلة الواقعة في الركن الأيمن من المقدمة، لمعرفة ما تبقى من الوقت قبل منتصف الليل "الكابوس المخيف"، وأستكثر كل دقيقة تمضي، ولم يخطر ببالي قبل الآن أن في الهاتف ساعة؛ وهي على ما يبدو أكثر دقة من ساعة الحافلة أو ربما لامس تأخرها عنها بدقيقتين هوى في نفسي.
في لحظات الترقب والانتظار هذه، حضر في ذهني كل جدول عملي في الغد - إن قدر الله لي البقاء - وبدأت أقلب مذكرات كنت ضبطتها في تقويم الهاتف لإسعاف الذاكرة، لترتيب الأولويات وتحديد ما سيكون من تلك الالتزامات ضحية قرار منتصف الليل "الارتجالي".
بينما أنا أدور في دوامة احتساب الأضرار المترتبة على المبيت المحتمل، قطعت حبل تفكيري نظرة خاطفة على الساعة؛ وصدمني أنها تشير لمنتصف الليل إلا ثلاثة دقائق، قبل أن تهدئ من روعي إعادة النظر لساعة الهاتف التي أبانت أن منتصف الليل ما يزال ينقص خمسة دقائق، والدقيقة حين تُنقص من حريتك تكون ذات قيمة عالية، بكل تأكيد.
منتصف الليل ودقيقة منتصف الليل إلا دقيقة حسب ساعتي الحافلة والهاتف، تتراءى لي من بعيد أضواء مدينة بتلميت "الحبس الموعود"، جل المسافرين استسلموا لمخاوفهم وانصاعوا لإلحاح أجسامهم وحاجتها للراحة بعد يوم شاق؛ فتخطفهم النوم.
الهدوء يعم الأرجاء، ولا شيء يكسر هدوء الليل غير هدير محرك السيارة واصطكاك كؤوس شاي الأربعيني الذي يجلس القرفصاء على سلالم باب الحافلة الأمامي.. تقدمت إليه مسلما؛ وبعد رد السلام؛ طلبته كأس شاي عله ينسيني هموم المبيت ومشاغل الغدوة، وما إن أنهيت احتساء كأسي حتى باغتني توقف الحافلة عند نقطة التفتيش الأمنية، فرفعت عيني إلى الساعة فإذا هي تشير إلى منتصف الليل واثنتي عشرة دقيقة قبل أن أعيدها للأخرى فإذا بها تشير لعشر دقائق بعد منتصف الليل.
ما إن أوقف الأمني الحافلة وصادر رخصة سائقها حتى نزل الأربعيني من فوق عرشه رفقة بعض الركاب لطلب إذن دخول المدينة من قائد نقطة التفتيش متعللين بعدم تناول الركاب طعاما منذ صبيحة اليوم.
وبعد تأويلات مختلفة لقرار الوزارة ومغازيه، وجدال حول مدى أحقية نقطة التفتيش من عدمها في توقيف الحافلة على مشارف المدينة، ومفاوضات انجلت عن تعصب قائد الفرقة الأمنية لحرفية الأوامر، طلب السائق أو بالأحرى أمر الجميع بالنزول من الحافلة، لينصاع جل الركاب للأمر ويبدؤوا يبحثون من مخابئ يبيتون فيها، أو مواقع داخل عريش غير بعيد انتهزت صاحبته الفرصة لتطلب ألف أوقية من كل شخص يريد أن يدلف إليه، فيما تعالت صيحات ثلة قليلة ممتعضة من التعسف في تطبيق القرار، وبقيت أنا أردد مع الأديب البائع المتجول الذي منعه كساد بضاعته من قضاء عطلة العيد مع ذويه:
يلالك يحد فطرك *** راه شرك افمال
وافبوتمليت حصرك *** تتكار أرحال