"تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية": عبارة كثر استعمالها حتى فقدت وزنها

الغربة هي حياة صعبة مليئة بالعزلة وشعور الوحدانية لكن واحدة من أهم فوائدها إنها تساعدنا على ملاحظة الفوارق بين المجتمعات بوضوح نور على علم. لقد أثارت موجات التسلل عبر الحدود الأمريكية التي جرت فيالفترة الأخيرة رغبتي في متابعة أحوال الوطن لمحاولة فهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية العامة ودورهما في السلوك الفردي والمجتمعي. ومن الأمور التي ثارت انتباهي كان انتشار عبارة "تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية" أو "بتوجيه من فخامة رئيس الجمهورية" أو "تجاوبا مع تعليمات فخامة رئيس الجمهورية" في نشرات الأخبار وتصريحات المسؤولين الرسميين، مهما كبر الأمر أو صغر.

بدا الاستخدام المفرط لهذه العبارة غريبا يوحي بأن كل ساعة من كل يوم وكأنها جزء من حملة انتخابية تدق الأبواب. ثم تذكرت أن هذا ليس بالأمر الجديد وإنما هو تقليد كان متبعا خلال أيام الحكم العسكري (وربما قبل ذلك) وتوارثته وسائل الإعلام الرسمية بصفة خاصة والمسؤولون الحكوميون بعد ذلك. تقليد تجذر في المجتمع حتى أنه أصبح متبعا لدى المواطنين عند الإدلاء بأي تصريح أو إجراء أي مقابلة صحفية. وعندهابدأت أتساءل: أما حان لهذا التقليد-الاستخدام المفرط لتعبير "تحت رعية فخامة الرئيس" وإقحام فخامته في جميع أمور الدولة وحياة المواطن-أن يستفيد من حقه في التقاعد؟

مما لا جدال فيه أن البلاد حققت إنجازات مهمة خلال العقود الأخيرة، ورغم اختلاف الآراء في مدى فعالية أو سلبية أو إيجابية هذه الإنجازات فإن الجميع يتفق على أننا حققنا بعض التقدم مهما كان بطيئا أو ضئيلا. من جهة أخرى، تسعى الحكومة الحالية للظهور بمظهر مختلف عن الحكومات السابقة-نظريا على الأقل-من خلال مبادرات متعددة أهمها مجهودات مكافحة الفساد. ولذلك أعتقد أن هذه الظروف مناسبة للتقليص من رمي "تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية" في بداية كل خبر أو تصريح لأن الاقتصاد في استخدام هذه العبارة أمر يخدم المصلحة العامة، إضافة إلى أنه يحسن من سمعة الحزب الحاكم حيث يرسخ الصورة التي يسعي (الحزب الحاكم) لخلقها.

فخامة رئيس الجمهورية يشغل منصبين ينبغي إدراك الفرق بين مهامهما وأهدافهما:

1) رئيس الجمهورية الذي يقود الجناح التنفيذي للحكومة التي تتولى مسؤولية تسيير شؤون الدولة والسهر على خدمة المواطنين وهي وظيفة عمومية مسؤولة أمام السلطة التشريعية والقضائية (نظريا على الأقل) والمواطنين الذين انتخبوه. 

2) رئاسة الحزب الحاكم التي هي وظيفة حزبية سياسية تخدم الحزب الذي ينتمي إليه وتسعى إلى تطبيق التوجهات السياسية والنظرةالفلسفية لهذا الحزب وفقا للقوانين والنظم المعمول بها (نظريا على الأقل). 

التمييز بين هاتين الوظيفتين مهم جدا لأنه يحدد صلاحيات سلطة الرئيس وواجباته. فمنصب رئيس الجمهورية له صلاحيات وواجبات تسري على أجهزة الدولة والمواطنين على عكس رئيس الحزب الذي تتوقف سلطته على المنخرطين في حزبه.

الآن، دعنا نعد إلى سلبيات الإفراط في استخدام العبارة المذكورة أعلاه:

1. الاستخدام المفرط لهذه العبارة يوحي أن جميع مؤسسات وموظفيالحكومة من الوزيرة إلي وكيل الشرطة يخضعون لإشراف ومراقبةفخامته بصورة مباشرة، الأمر الذي يشجع على الوفاء لشخص الرئيس فلان ولد افلان. لكن الواقع هو أن الجميع جزء من التنظيم الحكومي الذي يترأسه رئيس الجمهورية مما يشجع على الوفاء لمنصب الرئيس بغض النظر عمن يشغله

2. يقلل من اعتبار ويضعف نفوذ مؤسسات وموظفي الدولة حيث يرسخ الاستخدام المفرط لهذه العبارة أنهم (مؤسسات وموظفي الدولة) مجرد امتداد لفخامته. هذا الاعتبار غير صحيح حيث إنه يجب ان ننظر إلى موظفي الحكومة (كما يجب ان يعتبرون أنفسهم) على أنهم أفراد لديهم من الكفاءة والمهنية والإخلاص ما يجعل المصلحة الوطنية العليا هي همهم الأول والأخير

3. الاستخدام المفرط لهذه العبارة يخلق ترابطا ذهنيا بين شخص الرئيس وكل ما يحدث في البلاد وما نتعرض له خلال معاملاتنا مع الموظفين الحكوميين، حسنا كان أن سيئا. هذا الترابط يحمل الرئيس -باعتباره المشرف والراعي لتصرفات جميع موظفي الدولة- مسؤولية تبعيات وعواقب تصرفات لا ناقة له فيها ولا جمل، وهو أمر أقل ما يقال عنه إنه غير منصف

4. الاستخدام المفرط لهذا التعبير يشجع كبار المسؤولين من وزراء وغيرهم على الدفع بأسمائهم ومناصبهم في جميع نشاطات قطاعاتهم حتى ولو لم تكن لديهم أي مساهمة في الموضوع بصورة مباشرة، الأمر الذي يبخس جهود الذين حققوا الإنجاز وكأنهم مجرد آلة ميكانيكية ذات دور أتوماتيكي ثانوي.

أخيرا: ماذا يستفيد الرئيس الحالي وحزبه من إصدار تعميم يحدد من الإفراط في استخدام هذا التعبير؟

1. توطيد الجهود الرامية إلى تصوير الإدارية الحالية على أنها تمثل نقطة تحول فعلي للممارسة السياسة بطريقة ملموسة تخدم الوطن أولا بعيدا عن الاعتبارات الحزبية الضيقة.

2. تحقيق سبق إنجازي له أبعاد رمزية عميقة تمكن إضافته إلى قائمة الإنجازات الأخرى واستغلاله في الحملات والمسيرات الانتخابية.

3. سنُّ سنة حسنة سيكون له (الرئيس الحالي وحزبه) أجرها وأجر من عمل بها.

4. زرع بذور القيم المدنية التي هي الكفيل الوحيد بخلق وتدعيم الاحساس بالوطنية والمسؤولية الفردية.

 

طبعا هذا لا يعني أنه يجب حذف ذكر رئيس الجمهورية من جميع نشرات الأخبار والتقليل من دور فخامته قي قيادة البلاد، إنه فقط نداء للتقليل من الاستخدام المفرط لهذه العبارة الذي أفقدها مصداقيتها وقيمتها الحقيقية.

إضافة تعليق جديد